كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ}: يجوز أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول، وهو الظاهرُ، فيكونَ المفعولُ الثاني محذوفًا أي: عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي: المُوْحى، وأن تكونَ للقرآن والوحيِ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفًا أي: عَلَّمه الرسولَ. وشديدُ القُوى: قيل: جبريلُ وهو الظاهرُ. وقيل: الباري تعالى لقوله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1-2] وشديدُ القُوى: من إضافة الصفةِ المشبهة لمرفوعِها فهي غيرُ حقيقية.
{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)}.
قوله: {مِرَّةٍ}: المِرَّةُ: القوةُ والشدةُ. ومنه أَمْرَرْتُ الحَبْلَ إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه، والمَرِير: الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ، كأنه كُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى. وقال قطرب: العربُ تقول لكلِّ جَزْلِ الرأي حصيفِ العقلِ: ذو مِرَّة وأنشد:
وإني لَذو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ** إذا رَكِبَتْ خالةٌ خالَها

{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)}.
قوله: {وَهُوَ بالأفق}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ، و{بالأفق} خبرُه، والضميرُ لِجبريلَ أو للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. ثم في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّ هذه الجملةَ حالٌ مِنْ فاعل (استوى) قاله مكي. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. والثاني: أنَّ {هو} معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في (استوى). وضميرُ (استوى) و{هو}: إمَّا أن يكونا لله تعالى، وهو قول الحسنِ. وقيل: ضميرُ (استوى) لجبريل و{هو} لمحمد عليه السلام. وقيل: بالعكس. وهذا الوجهُ الثاني إنما يتمشَّى على قول الكوفيين؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ. وهذا الوجهُ منقول عن الفراء والطبريِّ.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)}.
قوله: {فتدلى}: التدلِّي: الامتداد من عُلُوٍّ إلى سُفْل، فَيُستعمل في القُرْب من العلوِّ، قاله الفراء وابن الأعرابي. وقال الهُذلي:
تَدَلَّى علينا وهو زَرْقُ حَمامةٍ ** له طِحْلِبٌ في مُنْتهى القَيْظِ هامِدُ

وقال آخر:
تَدَلَّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ

ويقال: هو كالقِرِلَّى، إن رأى خيرًا تدلَّى، وإن لم يَرَه تولَّى.
واستوى قال مكي: يقع للواحد، وأكثرُ ما يقع من اثنين، ولذلك جَعَل الفراء الضميرَ لاثنين.
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}.
قوله: {فَكَانَ قَابَ}: هاهنا مضافاتٌ محذوفاتٌ يُضْطَرُّ لتقديرِها أي: فكان مقدارُ مسافةِ قُرْبِه منه مثلَ مقدارِ مسافةِ قابٍ. وقد فَعَلَ أبو علي هذا في قول الشاعر:
................................. ** وقد جَعَلَتْني مِنْ حَزِيْمَةَ إصبعا

أي: ذا مقدارِ مسافةِ إصبع. والقابُ: القَدْرُ. تقول: هذا قابُ هذا أي: قَدْرُه. ومثلُه: القِيبُ والقادُ والقِيس قال الزمخشري: وقد جاء التقديرُ بالقوس والرُّمْح والسَّوْط والذِّراع والباعِ والخُطْوة والشُّبر والفِتْر والإِصبع، ومنه: لا صَلاةَ إلى أن ترتفعَ الشمسُ مِقدار رُمْحين. وفي الحديث: «لَقابُ قوس أحدِكم من الجنة وموضعُ قِدِّه خيرٌ من الدنيا وما فيها»، والقِدُّ السَّوْط. وألفُ {قاب} عن واوٍ. نصَّ عليه أبو البقاء. وأمَّا قِيْبٌ فلا دَلالة فيه على كونِها ياءً؛ لأنَّ الواوَ إذا انكسر ما قبلها قُلِبت ياءً كدِيْمة وقِيمة، وذكره الراغب أيضًا في مادة قوب إلاَّ أنه قال في تفسيره: هو ما بين المَقْبَضَ والسِّيَةِ من القوس فعلى هذا يكون مقدارَ نصفِ القوس؛ لأن المَقْبَضَ في نصفِه. والسِّيَةُ هي الفُرْضَة التي يُخَطُّ فيها الوَتَرُ. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى. ويُرْوى عن مجاهد: أنه من الوَتَر إلى مَقْبَضِ القوس في وسَطه. وقيل: إنَّ القوسَ ذراعٌ يُقاس به، نُقل ذلك عن ابن عباس وأنه لغةٌ للحجازيين.
والقَوْسُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌ، وشَذُّوا في تصغيرِها فقالوا: قُوَيْس من غيرِ تأنيثٍ كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ، ويُجْمع على قِسِيّ، وهو مَقْلوب مِنْ قُوُوْس، ولتصريفِه موضعٌ آخر.
قوله: {أَوْ أدنى} هي كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] لأنَّ المعنى: فكان بأحدِ هذين المقدارَيْنِ في رَأْيِ الرائي، أي: لتقارُبِ ما بينهما يَشُكُّ الرائي في ذلك. وأَدْنى أفعلُ تفضيلٍ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أو أدنى مِن قاب قوسين.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}.
قوله: {فأوحى}: أي اللَّهُ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لعدم اللَّبْس. وقوله: {ما أَوْحى} أُبْهِم تعظيمًا له ورَفْعًا مِنْ شأنِه، وبه استدلَّ جمال الدين ابن مالك على أنه لا يُشْتَرَطُ في الصلة أَنْ تكونَ معهودة عند المخاطبِ. ومثلُه {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، إلاَّ أنَّ هذا الشرطَ هو المشهورُ عند النَّحْوِيين.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}.
قوله: {مَا كَذَبَ}: قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا القراءة الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلى الله عليه وسلم بعينِه صَدَّقه قلبُه، ولم يُنْكِرْه أي: لم يَقُلْ له: لم أَعْرِفْك و{ما} مفعولٌ به موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ. ففاعِلُ {رأى} ضميرٌ يعودُ على النبي صلى الله عليه وسلم. وأمَّا قراءة التخفيفِ فقيل فيها كذلك. و{كذَبَ} يتعدى بنفسِه. وقيل: هو على إسقاطِ الخافضِ: أي: فيما رآه، قاله مكي وغيرُه. وجوَّز في {ما} وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى الذي. والثاني: أَنْ تكونَ مصدريةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ {رأى} ضميرًا يعودُ على الفؤادِ أي: لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه.
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}.
قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ}: قرأ الأخَوان {أَفَتَمْرُوْنَه} بفتح التاء وسكون الميمِ، والباقون {تُمارونه}. وعبد الله بن مسعود والشعبي {أَفَتُمْرُوْنَه} بضمِّ التاءِ وسكون الميم. فأمَّا الأولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مَرَيْتُه حَقَّهُ إذا غَلَبْتَه وجَحَدْتَه إياه. وعُدِّي ب {على} لتضمُّنِه معنى الغَلَبة. وأُنشِد:
لَئِن هَجَرْتَ أخا صدقٍ ومَكْرُمَةٍ ** لقد مَرَيْتَ أخًا ما كان يَمْرِيكا

لأنه إذا جَحَده حقَّه فقد غَلَبه عليه. والثاني: أنها مِنْ مَراه على كذا أي: غَلَبه عليه فهو مِن المِراء وهو الجِدالُ. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنْ ماراه يُماريه مُراءاة أي: جادَلَه. واشتقاقُه مِنْ مَرْي الناقةِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلِيْن يَمْري ما عند صاحبه. وكان مِنْ حَقِّه أن يتعدَّى ب {في} كقولك: جادَلْتُه في كذا، وإنما ضُمِّن معنى الغَلَبة فعُدِّيَ تَعْدِيَتَها. وأمَّا قراءة عبد الله فمِنْ أمراه رباعيًا.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}.
قوله: {نَزْلَةً أخرى}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الظرفِ. قال الزمخشري: نَصْبَ الظرفِ الذي هو مَرَّة؛ لأنَّ الفَعْلَةَ اسمٌ للمَرَّة من الفعلِ فكانَتْ في حُكْمها قلت: وهذا ليس مذهبَ البصريين، وإنما هو مذهبُ الفرَّاء، نقله عنه مكي. الثاني: أنها منصوبةٌ نَصْبَ المصدرِ الواقعِ موقعَ الحالِ. قال مكي: أي: رآه نازلًا نَزْلة أخرى، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطية. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد، فقدَّره أبو البقاء: مرةً أخرى أو رُؤْيةٌ أخرى. قلت: وفي تأويلِ {نَزْلَةً} برؤية نظرٌ. و{أخرى} تَدُلُّ على سَبْقِ رؤيةٍ قبلها.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}.
قوله: {عِندَ سِدْرَةِ}: ظرفٌ لِرَآه و{عندها جنةُ} جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ. والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ، و{جَنَّةُ المَأْوى} فاعلٌ به. والعامَّةُ على {جنَّة} اسمٌ مرفوعٌ. وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب {جَنَّة} فعلًا ماضيًا. والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم. والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى: سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى. وقيل: المعنى: ضَمَّه المبيتُ والليلُ. وقيل: جَنَّه بظلالِه ودَخَلَ فيه. وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا: {أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها}، وإذا ثبتت قراءة عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها، ولكنِّ المستعملَ إنما هو أَجَنَّه رباعيًا، فإن استعمل ثلاثيًا تَعَدَّى بـ {على} كقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} [الأنعام: 76]. وقال أبو البقاء: وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام. و{إذ يَغْشَى} منصوبٌ ب رآه. وقوله: {ما يَغْشَى} كقوله: {مَآ أوحى} [النجم: 10].
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.
قوله: {الكبرى} فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّ {الكبرى} مفعولُ رأى، و{مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} حالٌ مقدمةٌ. والتقدير: لقد رأى الآياتِ الكبرى من آياتِ ربه. والثاني: أنَّ {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} وهو مفعولُ الرؤية والكُبْرى صفةٌ لآيات ربِّه. وهذا الجمعُ يجوزُ وَصْفُه بوَصْف المؤنثةِ الواحدةِ، وحَسَّنه هنا كونُه فاصلةً. وقد تقدَّم مِثْلُه في طه [الآية: 23] كقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)}.
قوله: {اللات}: اسمُ صَنَمٍ. قيل: كان لثَقيفِ بالطائف، قاله: قتادة. وقيل: بنخلة. وقيل: بعُكاظ. ورَجَّح ابنُ عطيةً الأولَ بقول الشاعر:
وفَرَّتْ ثَقِيْفٌ إلى لاتِها ** بمُنْقَلَبِ الخائبِ الخاسرِ

والألف واللام في {اللات} زائدةٌ لازمةٌ. فأمَّا قوله: إلى لاتِها فَحَذَفَ للإِضافة. وهل هي والعُزَّى عَلَمان بالوَضْع، أو صفتان غالبتان؟ خلافٌ ويَتَرَتَّبُ على ذلك جوازُ حَذْفِ أل وعدمُه. فإنْ قلنا: إنهما ليسا وصفَيْن في الأصلِ فلا تُحْذَفُ منهما أل. وإنْ قلنا: إنهما صفتان، وإنَّ أل لِلَمْحِ الصفةِ جاز، وبالتقديرَيْن فأل زائدةٌ. وقال أبو البقاء: وقيل: هما صفتان غالبتان مثلَ: الحارث والعباس فلا تكون أل زائدة. انتهى.
وهو غَلَطٌ لأن التي لِلَمْحِ الصفةِ منصوصٌ على زيادِتها، بمعنى أنها لم تؤثِّرْ تعريفًا.
واخْتُلِف في تاء {اللات} فقيل: أصلٌ، وأصلُه مِنْ لات يليتُ فألفُها عن ياءٍ، فإنَّ مادةَ ل ي ت موجودةٌ. وقيل: زائدة، وهي مِنْ لَوَى يَلْوي لأنهم كانوا يَلْوُوْن أعناقَهم إليها، أو يَلْتَوون أي: يَعْتكِفُون عليها، وأصلُها لَوَيَة فحُذِفت لأمُها، فألفُها على هذا مِنْ واوٍ. وقد اختلف القراء في الوقف على تائِها. فوقف الكسائيُّ عليها بالهاء والباقون بالتاء، وهو مبنيُّ على القوليْن المتقدمَيْن: فَمَنْ اعتقدَ تاءَها أصليةً أقَرَّها في الوقف كتاء بَيْت، ومَنْ اعتقد زيادتَها وَقَف عليها هاءً. والعامَّةُ على تخفيفِ تائِها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وابن كثير في روايةٍ بتشديدِ التاء. وقيل: هو رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيْق ويُطْعِمُ الحاجَّ، فهو اسمُ فاعلٍ في الأصل غَلَبَ على هذا الرجلِ، وكان يجلسُ عند حَجَرٍ، فلما مات سُمِّي الحَجَرُ باسمِه وعُبِدَ مِنْ دون الله تعالى.
والعُزَّى فُعْلى من العِزِّ، وهي تأنيثُ الأَعَزِّ كالفُضْلى، والأفضل، وهي اسمُ صنمٍ. وقيل: شجرةٌ كانت تُعْبَدُ.
{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)}.
قوله: {وَمَنَاةَ}: قرأ ابن كثير {مَناءَة} بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف، والباقون بألفٍ وحدَها، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللَّه. فأمَّا قراءة ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ، وهمزتُها أصليةٌ، وميمُها زائدةٌ. وأنشدوا على ذلك:
ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة ** علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ

وقد أَنْكر أبو عبيد قراءة ابن كثير، وقال: لم أسمع الهمز. قلت: قد سمعه غيرُه، والبيتُ حُجَّةٌ عليه.
وأمَّا قراءة العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي: صبَّ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها، وأنشدوا لجرير:
أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ ** تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ

وقال أبو البقاء: وألفه من ياءٍ لقولك: مَنَى يَمْني إذا قدَّر، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو، ومنه مَنَوان فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة.
{والأُخْرى} صفةٌ لمَناة.
قال أبو البقاء: والأُخْرى توكيدٌ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى.
وقال الزمخشري: والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ، كقوله: {قالتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 38] أي: وُضَعاؤُهم لأَشْرافِهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى. انتهى.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ. وقيل: الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى. وقال الحسين ابن الفضل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي: العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه.
و(أرأيت) بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين، أوَّلُهما: اللات وما عُطِف عليها. والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قوله: {أَلكُمُ الذَّكَرَ} فإنْ قيل: لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ. فالجوابُ: أنَّ قوله: {وله الأنثى} في قوةِ وله هذه الأصنامُ وإن كان أصلُ التركيبِ: ألكم الذَّكَر وله هُنَّ، أي: تلك الأصنامُ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ.
وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفًا فإنَّه قال: وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول: أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة انتهى. فعلى هذا يكونُ قوله: {ألكم الذَّكَرُ} متعلقًا بما قبلَه من حيث المعنى، لا من حيث الإِعرابُ. وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال: وهي من رؤيةِ العين؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ، ولو كانَتْ أَرَأَيْتَ التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعًا في الأنعام وغيرها.
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}.
قوله: {ضيزى}: قرأ ابنُ كثير {ضِئْزَى} بهمزةٍ ساكنةٍ، والباقون بياءٍ مكانَها. وزيدُ علي {ضَيْزَى} بفتح الضادِ والياءِ الساكنة. فأمَّا قراءة العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه. فمعنى ضِيْزَى أي: جائرة. قال الشاعر:
ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ ** إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ

وعلى هذا فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض. فإنْ قيل: وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو: حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه. إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك، حكى ثعلب: مِشْية حِيْكى، ورجلٌ كِيْصَى. وحكى غيرُه: أمرأةٌ عِزْهى، وامرأة سِعْلى، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول: حِيْكى وكِيْصى كقوله في {ضيزَى} لتَصِحَّ الياءُ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما: سِعْلاة وعِزْهاة.
والوجه الثاني: أَنْ تكونَ مصدرًا كذِكْرى، قال الكسائي: يقال: ضازَ يَضيز ضِيْزَى، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى. ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءة ابن كثير، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها، وإن لم يكنْ من أصولِ القراء كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز: نَقَصه ظُلمًا وجَوْرًا، وهو قريبٌ من الأول. ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلًا مِنْ همزة أبو عبيد، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزًا، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها. وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز:
فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ ** فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ